فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
قال أبو سليمان الدمشقي: كان قضاء داود وسليمان جميعًا من طريق الاجتهاد، ولم يكن نصًّا، إِذ لو كان نصًا ما اختلفا.
قال القاضي أبو يعلى: وقد اختلف الناس في الغنم إِذا نفشت ليلًا في زرع رجل فأفسدتْه، فمذهب أصحابنا أن عليه الضمان، وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه ليلًا ونهارًا، إِلا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها، فظاهر الآية يدل على قول أصحابنا، لأن داود حكم بالضمان، وشرع مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنا ما لم يَثْبُت نَسْخُه.
فإن قيل: فقد ثبت نسخ هذا الحكم، لأن داود حكم بدفع الغَنَم إِلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشتْ غنمه في حرث رجل شيءٌ من ذلك؛ قيل: الآية تضمنت أحكامًا، منها وجوب الضمان وكيفيته، فالنسخ حصل على كيفيَّته، ولم يحصل على أصله، فوجب التعلُّق به، وقد روى حرام بن محيِّصة عن أبيه: أن ناقةً للبراء دخلت حائط رجل فأفسدتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
قوله تعالى: {وسخَّرْنا مع داود الجبال يسبِّحن} تقدير الكلام: وسخَّرْنا الجبال يسبِّحن مع داود.
قال أبو هريرة: كان إِذا سبَّح أجابته الجبال والطير بالتسبيح والذِّكْر، وقال غيره: كان إِذا وجد فترةً، أمر الجبال فسبَّحت حتى يشتاق هو فيسبِّح.
قوله تعالى: {وكُنَّا فاعلين} أي: لذلك.
قال الزجاج: المعنى: وكنّا نقدر على ما نريده.
قوله تعالى: {وعلَّمْناه صنعةَ لَبُوس لكم} في المراد باللَّبوس قولان:
أحدهما: الدُّروع، وكانت قبل ذلك صفائح، وكان داود أول من صنع هذه الحلق وسرد، قاله قتادة.
والثاني: أن اللَّبوس: السلاح كلُّه من درع إِلى رمح، قاله أبو عبيدة.
وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: {لُبوس} بضم اللام.
قوله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ} قرأ ابن كثير.
ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {لِيُحْصِنَكُمْ} بالياء.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: {لِتُحْصِنَكُمْ} بالتاء.
وروى أبو بكر عن عاصم: {لِنُحْصِنَكُمْ} بالنون خفيفة.
وقرأ أبو الدرداء، وأبو عمران الجوني، وأبو حيوة: {لِتُحَصِّنَكُمْ} بتاء مرفوعة وفتح الحاء وتشديد الصاد.
وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس: {لِتَحَصُّنِكُمْ} بتاء مفتوحة مع فتح الحاء وتشديد الصاد مع ضمها.
وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو المتوكل، ومجاهد: {لِنُحَصِّنَكُمْ} بنون مرفوعة وفتح الحاء وكسر الصاد مع تشديدها.
وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: {لِيُحْصِنَّكُمْ} بياء مرفوعة وسكون الحاء وكسر الصاد مشددة النون.
فمن قرأ بالياء ففيه أربعة أوجه.
قال أبو على الفارسي: أن يكون الفاعل اسم الله، لتقدُّم معناهـ. ويجوز أن يكون اللباس، لأن اللبوس بمعنى اللباس من حيث كان ضربًا منه، ويجوز أن يكون داود، ويجوز أن يكون التعليم، وقد دل عليه {علَّمْناه}.
ومن قرأ بالتاء، حمله على المعنى، لأنه الدرع.
ومن قرأ بالنون، فلتقدمُّ قوله: {وعلَّمناه}.
ومعنى {لِتُحْصِنَكُمْ}: لِتُحْرِزَكم وتمنعكم {مِنْ بأسكم} يعني: الحرب. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)} فيه ست وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ} أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله: {إِذ يحكمان} الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول؛ فإن حَكَمين على حكم واحد لا يجوز.
وإِنما حكَم كل واحد منهما على انفراده، وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه.
{فِي الحرث} اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعًا؛ قاله قتادة.
وقيل: كرمًا نبتت عناقيده؛ قاله ابن مسعود وشريح.
و{الحرث} يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة.
الثانية: قوله تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي رعت فيه ليلًا؛ والنفش الرعي بالليل.
يقال: نفشت بالليل، وهَمَلت بالنهار، إذا رعت بلا راعٍ.
وأنفشها صاحبها.
وإبلٌ نُفَّاش.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: «الحبة في الجنة مثل كرِش البعير يبيت نافِشًا»؛ أي راعيًا؛ حكاه الهروي.
وقال ابن سيده: لا يقال الهَمَل في الغنم، وإنما هو في الإبل.
الثالثة: قوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} دليل على أن أقل الجمع اثنان.
وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه؛ فلذلك قال: {لحكمِهِم}.
الرابعة: قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها.
وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أحرز أن يبقى ملك كل واحد منهما على متاعه، وتبقى نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث.
وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم.
قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت.
وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث.
فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي.
فأتى أباه فقال: يا نبيّ الله إنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع.
قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه.
فقال داود: وفقت يا بنيّ لا يقطع الله فهمك.
وقضى بما قضى به سليمان؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما.
قال الكلبي: قوّم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم.
وهكذا قال النحاس؛ قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبًا منه.
وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضًا.
الخامسة: قوله تعالى: {وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} تأوّل قوم أن داود عليه السلام لم يخطىء في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم.
وحملوا قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه.
وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلمًا يرجع إليه في غير هذه النازلة.
وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم، لَكِن لا يقرّون عليه، وإن أقرّ عليه غيرهم.
ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الَكِنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبًا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا ففقد أخطأت أنت؛ فأجابه الوليد {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
وقال قوم: كان داود وسليمان عليهما السلام نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحي إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: {وَكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك.
وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي:
السادسة: واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوّزه المحققون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الربّ سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة؛ فهذا غير مستحيل في العقل.
فإن قيل: إنما يكون دليلًا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه.
قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم.
والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك.
كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم.
وذهب أبو على ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بُعِث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطه.
وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العِدَّة فقال لها: «اعتدّي حيث شئت» ثم قال لها: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله».
وقال له رجل: أرأيت لو قُتِلت صبرًا محتسبًا أيحجزني عن الجنة شيء؟ فقال: «لا» ثم دعاه فقال: «إلا الدَّين كذا أخبرني جبريل عليه السلام».
السابعة: قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أنّ القضاة هلكوا، ولَكِنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده.
وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذا اختلفوا؛ فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، وقد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران أجر في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطىء في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور.
وهذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم.
ورأت فرقة أن العالم المخطىء لا إثم عليه في خطئه وإن كان غير معذور.
وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل بل وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور، ولم يتعبد بإصابة العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط.
وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، المطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرّر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه.
ومنه ردّ مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس على الموطأ؛ فإذا قال عالم في أمر حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس.
قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي هي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قوله عليه السلام: «إذا اجتهد العالم فأخطأ» أي فأخطأ الأفضل.
الثامنة: روى مسلم وغيره عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم: «إذا حكم فاجتهد» فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس؛ فإن الاجتهاد مقدّم على الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع.
وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} [النحل: 98] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة.
ويفيد هذا صحة ما قاله الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرًا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدّم لإمكان أن يظهر له ثانيًا خلاف ما ظهر له أوّلًا، اللهم إلا أن يكون ذاكرًا لأركان اجتهاده، مائلًا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى.
التاسعة: إنما يكون الأجر للحاكم المخطىء إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلًا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر.
يدل على ذلك حديثه الآخر؛ رواه أبو داود: «القضاة ثلاثة» الحديث.
قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، مما يؤيد هذا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية.